تأليف: مجموعة من قدماء برسبكتيف
حتى تكون ممارساتنا في خدمة الثورة التونسية مبنية على نظرة واقعية ومُلمّة بجوهر التحديات التي تطرحها المرحلة التي نعيشها، يقدم فريق من قدماء "مجموعة الدراسات والعمل الاشتراكي التونسي" (برسبكتيف) هذه الأفكار التي يعتبرونها أساسية لفهم طبيعة هذه الثورة، وهي أفكار مطروحة للنقاش والتعمق والنقد والإثراء.
أوّلا: ثورة تؤشر لمرحلة جديدة في العلاقات بين بلدان الشمال والجنوب
إن ارتدادات الزلزال الثوري الذي عرفته تونس خلال هذا الشتاء (2011) والتي شملت على التوالي عددا متزايدا من البلدان العربية (مصر، ليبيا، اليمن، البحرين، سوريا، الخ) قد أضفى على الأحداث طابعا دوليا وتاريخيا شبيها بأحداث سقوط جدار برلين سنة 1989 الذي أعلن نهاية الحرب الباردة بين المعسكرين المتنافسين آنذاك –الشرقي والغربي – ودخول العالم في مرحلة تاريخية جديدة خاصيتها الأساسية انفراد العالم الغربي وبالخصوص القوة العظمى الأمريكية بالهيمنة السياسية والاقتصادية طوال فترة هامة من العشرينية الأخيرة. وبالرغم من أن العالم شهد في تلك الفترة تحولات ذات بال في موازين القوى الدولية مثل الصعود الملفت إلى أعلى المراتب التنموية لبعض الدول التي كانت تنتمي إلى ما سمي سابقا بالعالم الثالث ومثل التقلص الكبير لدور القوة الروسية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانحلال حلف فارسوفيا، فإن ما دشنته ثورة تونس في بداية 2011 ثم ثورة مصر وانتفاضات عدد كبير من شعوب المنطقة العربية بعد الأزمة المالية العنيفة والعميقة التي عصفت بالنظام اللبرالي العالمي سنة 2008 وتبعاتها الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية ليؤشر إلى دخول عالمنا المعاصر في مرحلة تاريخية جديدة أيضا رهانها تغيير جوهري مرتقب في نموذج العلاقات غير المتساوية التي تربط بلدان الجنوب ببلدان الشمال. إن ثقل الأحداث واتساعها وسرعة انتشارها، والموقع الجيوستراتيجي المحوري للمنطقة العربية ووزنها الديمغرافي والاقتصادي الكبير، كل هذه العوامل تؤكد أن التحول الذي تشهده المنطقة هو تحول ذو طبيعة نوعية وأن انعكاساته الدولية والجهوية والمحلية المؤكدة سوف تكون هيكلية، متعددة الأشكال وطويلة المدى.
ثانيا: ثورة ترتقي بالإنسان التونسي إلى مستوى المواطنة واستيعاب القيم الكونية لاستكمال مقومات هويته الحداثية
إن التحدي الكبير الذي تضعه أمامنا ثورة شعبنا الراهنة هو صياغة مشروع حضاري جديد يستوعب القيم الكونية ويؤلف بين أهم المكتسبات التي حققتها الثورات والتجارب البشرية السابقة: مكتسبات سياسية ومدنية راكمتها الثورات البورجوازية المتتالية، مكتسبات اقتصادية واجتماعية أنجزتها الثورات والتجارب الاشتراكية المختلفة ومكتسبات في التحرر الوطني وحق تقرير المصير حققتها حركات تحرير الشعوب. وفي عالم تفاعلت وتعاطفت فيه بصورة مذهلة جل شعوبه مع نضالات شعبنا وهو يطيح بنظام الاستبداد والقهر ويطالب بإقرار الحريات الفردية والجماعية والعدالة والمساواة والتضامن الإنساني لا تستطيع النخب السياسية اليوم استقراء ثورته العارمة إلا كتكريس عبقري لتلك القيم والمبادئ وكطفرة نوعية تفتح أمام الإنسان التونسي آفاقا جديدة ترتقي به إلى مستوى الإضافة الكونية المنفتحة على تراث البشرية والمثرية لما جاء به الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
لقد بوّأت الثورة التونسية هذه الحقوق والحريات - التي نصت عليها جميع المواثيق الدولية وأصبحت القاعدة الأساسية للتعامل بين أفراد الجنس البشري - المكانة المتميزة في الوعي الوطني للتونسيين بمختلف فئاتهم وطبقاتهم جعلتهم يثورون على منزلة الرعية التي أراد أن يؤبدهم فيها نظام الاستبداد والفساد ومكّنتهم من أن يرتقوا إلى منزلة المواطنين الأحرار الذين يمسكون مصيرهم بأيديهم ويبنون مستقبلهم في كنف تلك المبادئ والحريات. ولا تقتصر تحديات المعركة التي نعيشها من خلال مجريات الصراع الدائر ببلادنا وبقية البلدان العربية على مقاومة مخلفات سياسات الاستبداد والقمع والاضطهاد التي كانت تعاني منها شعوبنا خلال العقود الماضية بل إنها تشمل عملية تقدم مرحلة الانتقال نحو الديمقراطية التي تفترض أكثر من أي وقت مضى الالتزام بروح تلك القيم والمبادئ وتكريسها على أرضية الممارسات الفردية والجماعية للفاعلين الثوريين. إن هؤلاء لمطالبون اليوم باستبطان أكثر عمقا وشمولية لهذه المبادئ والقيم العليا للثورة ولحقوق الإنسان التي يجب أن تتصدر بنود الدستور الجديد الذي سيتولى إعداده المجلس التأسيسي المقبل. ويُمَكّنُنا التبني الصريح لإعلان حقوق الإنسان من مواصلة خوض معركة المواطنة - لكسبها - ونحن مسلحون نظريا على الأقل، شرط أن نتحلى بروح التسامح والموضوعية والتطبيق النزيه لفصول هذا الإعلان لأنه يحتوي على أدواة إدارة الاختلافات بين الناس وفهم إشكاليات التضارب بين مصالحهم المختلفة ويحتوي كذلك قواعد احترام الكرامة الإنسانية وحق كل إنسان في التمتع بكل حقوقه كاملة وغير منقوصة.
إن الهوية الحداثية للدولة التونسية أو للمواطن التونسي اليوم تبقى منقوصة ما لم تدمج في مكوّناتها أرقى ما وصل إليه الفكر الإنساني من قيم ومبادئ وأخلاق وتنظيم ومعارف الخ وما لم تصهر في تجربتها الخاصة - دون تعسف أو إسقاط - كل هذه الثقافة الكونية التي تشكل تراثا مشتركا للإنسانية جمعاء.
ثالثا: ثورة تطرح مراجعة شاملة وجذرية لمنوال تنمية غير عادل وغير متضامن
انطلقت الشرارة الأولى للثورة في المنطقة العربية من تونس وهو البلد الذي تراكمت فيه في العقود الأخيرة مجموعة من الإشكاليات والتناقضات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والجيوستراتيجية وجملة من التطورات (الهيكلية والطبقية والتربوية...) أفرزها منوال تنمية معتمد من قبل نظام اختار الانخراط دون مقاومة جدية في المنظومة الليبرالية العالمية التي تتحكم فيها قوانين المنافسة بين المصالح الاحتكارية الكبرى. لم ينتبه المراقبون والمتتبعون للشأن السياسي أن هذا البلد يوجد في أقرب نقطة على خط المواجهة العالمي – المحاذي لأوروبا – الذي يفصل بين مناطق الرخاء الليبرالي في بلدان الشمال ومناطق الإقصاء والتهميش في بلدان الجنوب. بل إن ذلك الخط يشق تونس بالفعل من شمالها إلى جنوبها ويمر بالضبط من سيدي بوزيد والقصرين وقفصة وغيرها من المناطق المنسية من مشاريع التنمية طيلة عقود عديدة. إن الأولوية المطلقة التي أعطاها منوال التنمية التونسي بالتركيز على المناطق الساحلية التي كان يظن أن تنميتها بالاعتماد على السياحة وبعث بعض الأنشطة الصناعية والفلاحية سوف يجر بصورة آلية تنمية المناطق الغربية وكذلك السياسات القطاعية في مجالات الفلاحة والتربية والتعليم والبحث... كانت في المحصلة سياسات تعيد وتكرس المنطق الاقتصادي الليبرالي في تقسيم العمل والثروات التي تفرضه الليبرالية العالمية على بلدان الجنوب. لقد عاشت تونس في إطار هذا المنوال ازدواجية في التنمية واستقطابا مفرطا في التوزيع وتدنيا مبرمجا للعمل السياسي وانخفاضا خطيرا لمستوى التعليم ومصداقية الشهادات المدرسية و ضياعا مهدرا لطاقات الشباب. وزاد في تعميق هذه السلبيات واستحالة معالجتها انغلاق الوضع السياسي وهيمنة طغمة فاسدة استحوذت على أهم المواقع الإستراتيجية في الدولة و المجتمع.
لقد ضربت الأزمة المالية التي عصفت بالنظام الليبرالي العالمي في سنة 2008 المنوال التنموي التونسي في الصميم وسدت آفاق تطوره على المستوى المتوسط والطويل بالرغم من الإنكار المتعنت لنظام بن علي لذلك وتقديمه لتونس كبلد استطاع أن يخرج بسلام وبأقل الأضرار من تلك الأزمة. غير أن تعمق وتوسع ممارساته القمعية كانت تدل في الحقيقة على عكس ذلك تماما.
فلا غرابة إذن أن تتنزل الثورة الديمقراطية والاجتماعية التي تشهدها بلادنا هذه الأيام في صميم مجريات الأزمة البنيوية العميقة التي تعيشها الرأسمالية العالمية وهي بذلك تقدم برهانا آخر على ضرورة المراجعة الصارمة والعميقة للمنوال التنموي ببلادنا وكذلك للأسس والثوابت التي قامت ولا تزال تقوم عليها السياسات الاقتصادية الليبرالية للنظام الرأسمالي العالمي المهيمن. لقد كسرت الأزمة المالية الأخيرة شوكة غلاة الليبراليين الداعين إلى عبادة قوانين السوق الحرة وقوانين العرض والطلب والهيمنة المطلقة لقوانين الربح والتجارة الحرة، الخ... كما كسر فشل التجارب الاشتراكية الدغمائية ثوابت الاقتصاد المخطط والإدارة التعسفية لدواليب الاقتصاد والسوق وهيمنة بيروقراطية الدولة على كل مجالات الإنتاج والتوزيع والاستهلاك.
إن المطلوب اليوم هي رؤية متوازنة ومنوال تنمية ديناميكي، حداثي، عادل ومتضامن يجمع بين إيجابيات كلتا التجربتين التاريخيتين ويتفادى أخطاءهما، فلا ليبرالية متوحشة ولا تخطيط تعسفي، منوال يأخذ بعين الاعتبار مصالح كل الفئات وينهض بالخصوص بالضعيفة منها ويوظف بصورة واعية ومسؤولة الثورة المعرفية العارمة التي يشهدها العالم اليوم.
رابعا: ثورة تطرح ضرورة قيام تحالف طبقي واسع لمواجهة تحديات ومهام المرحلة الانتقالية
لا ينكر أحد العدد الوفير للمتدخلين الاجتماعيين في الأحداث التي تشهدها بلادنا مؤخرا . الأحداث انطلقت في البداية من احتجاجات وغضب العاطلين عن العمل والمهمّشين وذوي الوضعيات الاقتصادية الهشة الذين أصبحوا عدديا ونوعيا يمثلون طبقة (أو فئة) اجتماعية قائمة بذاتها، ثم ساندهم في تحركاتهم في مرحلة ثانية مجمل الأجراء والشغالين وبذلك سجلت الطبقة الشغيلة دخولها إلى ميدان المعركة، وهذا الدخول إلى الحلبة أدى بدوره إلى جر أجنحة هامة من الطبقات الوسطى من أصحاب مهن حرة وأصحاب مؤسسات صغرى ومتوسطة للانضمام إلى حركات الاحتجاج ووسعت القاعدة الاجتماعية لقوى الثورة، الأمر الذي أعطاها بعدا اجتماعيا وسياسيا لم تكن تتسم به في البداية اعتبارا لاقتصارها على بعض المطالب الاقتصادية المحدودة.
ورغم انطلاق الشرارات الأولى لحركات الاحتجاج من ولايات الوسط والجنوب، وهي ولايات ريفية فلاحية، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أن الطبقة المحركة للثورة هي طبقة الفلاحين. ورغم الدور الهام الذي لعبه المهمشون والعاطلون عن العمل طوال مختلف الأطوار، فلا يعني ذلك أيضا أن الثورة تقتصر عليهم، وكذلك الشأن بالنسبة للشغالين والأجراء... إن القاعدة الاجتماعية للثورة هي قاعدة واسعة تضم (موضوعيا) تحالفا طبقيا واسعا يشمل كل الطبقات المشار إليها إضافة إلى فئات واسعة من الطبقات الوسطى والبورجوازية. إنها نموذج متكامل للثورة الديمقراطية الوطنية الشاملة لمجمل طبقات الشعب.
إن السرعة التي تم بها الإطاحة بنظام بن علي تشير إلى عزلته الاجتماعية الكبيرة وهي عزلة بدأت تدريجيا في التعمق منذ أن استشرى فساد "العائلة المالكة" بعد إحكام قبضتها على شرايين النشاط الاقتصادي في البلاد. وعندما انطلقت احتجاجات العاطلين عن العمل والمهمشين وقابلتها الممارسات التعسفية والإجرامية للنظام لاقت مساندة سياسية متصاعدة من قبل كل القوى والفئات والطبقات المذكورة. يكمن نجاح الثورة التونسية إلى حد الآن في التشكل الموضوعي لمثل تلك "الجبهة" التي ضمت الأغلبية الساحقة من القوى الحية في المجتمع باستثناء الطغمة الحاكمة وعصاباتها الموالية، وكان الجيش الوطني هو آخر المنضمين علنيا إلى صفوف الشعب. إن تكوين هذه "الجبهة" الواسعة في غياب قيادة يستطيع النظام بمحقها إيقاف حركة الاحتجاجات هو الذي عجل بهروب الدكتاتور وسقوط نظامه السريع.
خامسا: ثورة تجسّم دخول أجيال الثمانينات والتسعينات في المعترك السياسي الوطني بعقلية رافضة للخضوع وبأساليب تقنية غير مسبوقة
أُعيبَ غالبا على الشباب التونسي عدم اهتمامه بالشأن السياسي واستقالته المتواصلة من النشاط المدني ولجوئه أو اعتنائه أكثر بالأمور الثانوية والملهيات على حساب المشاركة في الحياة السياسية والثقافية. غير أن الأحداث أثبتت أن النار كانت خامدة تحت الرماد، وأن شبابنا الراسخ في مختلف فئات المجتمع وطبقاته لم يكن متجاهلا ولا غير منشغل بالقضايا الوطنية المطروحة... بل كانت صيغة إحساسه وفهمه لها تختلف عن صيغ الأجيال التي سبقته. فالظروف الاجتماعية والمستويات التعليمية والمحتويات التربوية والممكنات المتاحة والطموحات المهنية وكذلك الانجذابات الإيديولوجية والمذهبية وآفاق الارتقاء الاجتماعي لدى الفئات كانت مختلفة عن مثيلاتها لدى الأجيال السابقة. إضافة – وهذا شيء في غاية الأهمية – إلى الدفق الجديد من الأدوات التواصلية التي أصبحت متوفرة ومستعملة على نحو كثيف من طرف الأجيال الجديدة والتي مكّنهم التحكم فيها من كسب أسبقية تقنية حوّلوها إلى أسبقية معرفية ثقافية فجّرت طاقاتهم في جمع ومعالجة المعلومات وكسر الطوق الذي ضربه النظام التعسفي على حريات التعبير والتظاهر والاحتجاج.
لقد تمازجت وتفاعلت ثورة الشباب التونسي هذه مع الظاهرات الأخرى للثورة التونسية، بل كانت أيضا رأس حربتها التي أحدثت شرخا عميقا في تماسك النظام عندما اخترقت منظومته الإعلامية والدعائية التي كانت مسيطرة بصورة تكاد تكون مطلقة على الساحة الإخبارية - رغم مجهود بعض الفضائيات العربية. وقد لعبت الشبكات الإلكترونية دورا غير مسبوق في فك العزلة عن النضالات المتتالية لمختلف الشرائح الاجتماعية والفاعلين السياسيين مبرزة التقاءهم في خندق واحد للتصدي لطغمة الفساد والاستبداد.
سوف يواصل هذا المعطى الشبابي لعب دور حاسم على الساحة السياسية، وسيواصل - بطبع الأحداث بطابعه الديناميكي- تفاعله وتمازجه مع المكونات الأخرى للثورة التونسية، وربما يكون ذلك بأشكال جديدة تمليها علينا مختلف المراحل التي سوف تمر بها عملية الانتقال الديمقراطي.